“أنا مرقت ليك أمي يا النور لقيت روحي فاترة، أسوي شنو أنا وريني؟”
-نازحة من ولاية الجزيرة في تسجيل صوتي انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي إبان اجتياح مليشيات الدعم السريع لقرى الولاية
كشفت حرب الـ15 من أبريل عن عورة التغييب ولنقل الغياب لأن المسؤولين عن التغييب كُثُر، الغياب الذي فُرض على السودانيات والسودانيين بسبب أنظمة سياسية اورثتهم عقوبات اقتصادية فرضتها ناظرة الديموقراطية وحقوق الإنسان الولايات المتحدة الأمريكية لقرابة الثلاثين عاما على السودان، دفعت ثمنها أجيالٌ حُرمت من حقها في التمتع ببنية تحتية ومصانع، أنظمة كهرباء ومياه، نظم اتصالات وزراعة أكثر تطورًا تستطيع التنبؤ والتصدي لفيضان يأتي كل عام.
غاب أكثر من نصف ولايات السودان عن فضاء الانترنت والمكالمات لعام كامل بسبب استهداف مليشيا الدعم السريع المدعومة اماراتيًا لنظم تشغيل الاتصالات الأرضية الرئيسة في ولاياتهم لتضرب غيابًا آخر على المُغيّبين، متجاهلا ذلك ومحققًا لبنود صرفه بلا اكتراث بتيسير وصول الخدمات فعلا طلب صندوق الغذاء العالمي من سكان ولاية الخرطوم تعبئة استمارة عبر الانترنت للحصول على دعم مالي للغذاء. بعد عام وثمانية أشهر وصلت أول حافلات مساعدات انسانية من اليونسيف محملة بالغذاء والدواء لمحلية الخرطوم المحاصرة منذ اندلاع الصراع بعد أن تعاونت الأمم المتحدة بصورة لصيقة مع القواعد وغرف الطوارئ الصامدة للان.
احتلت مليشيا الدعم السريع مدينة سنجة في يوليو الماضي، أجبرت المواطنين على النزوح على أقدامهم اياما وليالي، بعد ان نهبت المركبات وعربات “الكارو” وحتى مراكب المعدية، ليهيم السودانيون في طرق صحراوية بالايام محاولين الوصول للقضارف أو قرى النيل الازرق. كتب أحد المهجرين قسرا: كان نزوحي على قدمي مهينا، ولكن أكثر اللحظات التي قتلت حتى امنيات النجاة عندما منحت أم طفلها راجلة على قدميها طفلها الرضيع لامراة اخرى على متن حافلة قائلة لها : “خليه معاك قدام وان الله كتب عمر بفتشك والقاك واشيل جناي”.
غياب اختياري: “ولدي حارس امه”
أتابع مقطعا مصورا لإحدى فنانات الحرب وبفنانة حرب أعني أنها تتغزل في أحد طرفيها وفي حالة هذه الفنانة كان الجيش، عند سؤالها عن سبب عدم استنفار ابنها وبقاءه بجانبها في دولة خليجية اجابت: ولدي حارس أمه. يعتريني التساؤل، كم أم كان لها حق النجاة مع ابنها؟ كم أم كان لها حق الاختيار والقرار بابقاء ابنها بعيدا عن محرقة الموت؟ فيديوهات عودة المستنفرين لبيوت اهاليهم عند تحرير منطقة تجعل التأثر فعلا عاجزًا أمام هذه الجسارة التي تغالب الحسرة والبكاء ومرارة الغياب والاشتياق.
في زمن ماضي كنت اتساءل: لم هم جنجويد؟ على خجل اسأل نفسي: هل من الضروري موت كل هؤلاء الأطفال من أجل حماية امبراطورية حميدتي و بن زايد؟ لاحقًا توقفت عن التساؤل، غاضبة ونازحة ثم لاجئة. أجرمت الدولة، أجرمت اسرهم، أجرمت القبيلة واجرمو هم في حق المواطنين، وإن صارت البروليتاريا الرثة كتلة فاشية بسبب إغراء المال والذهب فلا يجب الاعتذار بفقرها. اوثق اغتصابات ممنهجة لجنود المليشيا الذين قد بلغوا ال18 الان. كيف نطالب كباحثات بتلّمس الجذور وتحليلها بعيدًا عن هذا الغبن؟
مع بداية العدوان على الفاشر، كتب أحد الحسابات على موقع X عن شاب مستنفر مع مليشيا الدعم السريع تم قتله خلال المعركة ، كتب الحساب أن هذا الشاب الجامعي حديث التخرج لم يكن ينوي أن يفزع القبيلة، لكن والده اغرته المليارات السبع التي ستدفع جراء الدفع بابنه للمحرقة، رفضت الأم ولكن لا رأي للعوين في هكذا مسائل، قُتل الابن، اصيبت الام بشلل من هول الصدمة و انتهى الحال بالوالد بفقدان ابنه لقاء حفنة نقود لا تتعدى ثلاثة آلاف دولار.
الغياب القسري: رفض الوجود المعيب
مع استمرار الحرب وعبر تعقيدات المجتمع المختلفة والكم الهائل من الجرائم الممنهجة والإذلال، بعض التجارب لابد أن تدفن خوف الفضيحة. انتحرت 13 فتاة في قرية السريحة، خوفا من الاغتصاب بعد هجوم مليشيا الدعم السريع . هو أمر من المعقد للغاية إبداء الرأي فيه كما كتب مالك داغستاني على موقع تلفزيون سوريا وقارن بين هذا الحدث المفجع وماحدث في الحرب العالمية الثانية، بين تمجيد الانتحار المشرف في الثقافة اليابانية وبين المعتقد الإسلامي الذي يرفض الانتحار الذي يؤدي بصاحبه للخلود في الجحيم وبين اتباع العرف الشرقي الذي لا يساوم على الشرف. لن نجد تجارب محكية عن الاستغلال الجنسي مقابل الغذاء والدواء والحماية من الاغتصاب الجماعي، لن نسمع عن حكايا بائعات الشاي في مناطق احتلال الدعم السريع. لن نجد توثيقا مشاعا عن الأسر المحاصرة التي لاتمتلك رفاه النزوح واللجوء والتي قُتلت وتُقتل كأضرار جانبية لقصف طيران الجيش السوداني لمناطق تواجد الدعم السريع، لن نسمع عن مصطفى يعقوب وزوجته سوزان و ابنته جنات ذات الابتسامة الساحرة الذين قتلوا في لحظة في قصف جوي على مدينة نيالا, لم نكن لنعلم عنهم لو لم تكن خالتهم فاعلة سياسية على صلة بالمركز ونخبه بطريقة ما ولو كانت عبر الاثير. لم نكن لنسمع عن الثلاث أخوات ستنا وبثينة ومحاسن اللاتي قتلن في يوم واحد وهن جالسات سوية في صالون البيت في شمبات ممسكات بأيدي بعضهن البعض مع ازدياد التدوين، إثر وقوع دانة جراء تدوين الدعم السريع، ما لم تكتب ابنة اخيهم التي نجت ولم تجد فرصة للعزاء والتوثيق إلا عبر صفحتها على فيسبوك. اليوم تمر الحرب فوق صمتهم و غدًا سيعلو ضجيج الانتصار على صوت نواحهم.
حبيبة مقاتل:
عند التجول داخل المجموعات النسائية، لا يكاد يخلو يوم من استشارة لـ “عضو مجهول” تطلب الدعاء لخطيب وحبيب مقاتل انقطع التواصل معه مع بداية التدوين أو القصف أو معارك المواجهة والتحرير.
الاستنفار ومحاولات النجاة:
لا يتم الحديث بصورة مريحة ومثيرة للتساؤل دون الخوف من الهجوم الحاد، التخوين والتنكيل عن مزايا الاستنفار، تناقل البعض اخبار ان مقابل استنفار كل مايعادل 100 دولار شهريا تُمنح لأسرته. البعض تحدث عن بدائل تموينية. من واقع تجربتي الشخصية فمن كل 10 حوجات يوميًا تنشر حوجة إطعام أو علاج لاسرة مستنفر أو مستنفر شهيد لجمع التبرعات.