الأجسام النسوية في “كادوقلي”: بين الندرة والترصد، بين المجاعة والصمت

وحدة التوثيق

للحرب أسلحة نراها ونعرفها، وأسلحة أخرى تُصنع “منا” لتُستخدم ضدنا..


في يوليو 2025، اعتقلت السلطات في كادوقلي أكثر من 10 سيدات وتحرت معهن اللجنة الأمنية* عقب مشاركتهن في مظاهرة سلمية للتنديد بتدهور الأوضاع المعيشية والإنسانية في المدينة.

يتم استهداف القياديات في الأجسام النسوية بصورة مباشرة باستخدام أدوات قمعية مثل الاعتقال الذي يعقبه تشويه السمعة مما ينتج عنه انعزالاً بين القاعدة والأجسام، أو بصورة غير مباشرة مثل تعقيد إجراءات الأنشطة؛ حيث تخشى العديد من الحقوقيات، بل ويرفضن الذهاب للمراكز الأمنية خوفاً من الانتهاكات المتعددة التي يتعرضن لها في هذه المراكز، ولا يتوفر لهن خيار سوى الصمت عما حدث، وذلك لما تفرضه هذه الجهات من قيود تمنعهن حتى من مشاركة مظالمهن. يتضح هذا الخوف في الحوادث المتكررة التي تتعرض لها الناشطات أثناء ممارسة أنشطتهن، فقد أوقفت عناصر من جهاز الأمن ناشطة نسوية من الاستمرار في تقديم ورشة تدريبية، فقط لأنها تطرقت في حديثها إلى القرار الأممي 1325 المعني بالمرأة والسلام والأمن. تعكس هذه الحادثة كيف أصبحت حتى أبسط محاولات التوعية النسوية محظورة في كادوقلي، ويُنظر لها كتهديد أمني.

تحكم اللجنة الأمنية في الأجسام النسوية وأنشطتها خلف فعلاً توجيهياً وإجباريًا، حيث تعرضت الأجسام المدعومة بتمويل خارجي للإيقاف أو الإكراه على تغيير أنشطتها المتعلقة بالعنف وقضايا واحتياجات النساء لأنشطة الطوارئ وتوزيع الذرة!. ففي إحدى الحالات، تقرر تنفيذ مخيم علاجي بإشراف منظمة محلية في مساحة كانت مخصصة مسبقًا لأنشطة نسوية. بدلاً من إيجاد حل يراعي احتياجات الطرفين، طُلب من العاملات في المجال النسوي أخذ إجازة، وتم تبرير الأمر بأن “المخيم العلاجي أولى من النسوان”، ما يعكس بوضوح الأولويات المختلة في التعامل مع قضايا النساء خلال الأزمات. و في مثال صارخ على تقييد الاستجابات الإنسانية المخصصة للنساء، قامت مفوضية العون الإنساني بكادوقلي بإيقاف أنشطة منظمة “Plan International”، ومنعتها من توزيع الفوط الصحية للنساء والفتيات النازحات دون تقديم أي توضيحات رسمية أو شفافة. هذا القرار أدى إلى تفاقم المعاناة اليومية للنساء والفتيات في ظل ظروف النزوح القاسية.

خلفية الحصار والتجويع وأثره على الحركة النسوية

مدينة كادوقلي، حاضرة ولاية جنوب كردفان، ذات التاريخ الطويل في مقاومة المستعمر وقانون المناطق “المقفولة”، تاريخ الطفرة الاقتصادية في المحاصيل وإنتاج القطن والصمغ العربي والمواشي، ذات مناخ السافانا الغنية، مدينة الجبال والتعدد الإثني والثقافي، صارت اليوم ترزح تحت الحصار والتجويع والمنع من إعلاء الأصوات!

تقع المدينة تحت حصار ثلاثي بين الجيش السوداني وقوات الحركة الشعبية شمال “عبد العزيز الحلو”، وسيطرة الدعم السريع على مناطق شمال كردفان وقطع طرق الإمداد، بالإضافة لانقطاع الانترنت واعتماد المنطقة بالكامل على الإنترنت الفضائي “ستارلينك”،نتيجة ذلك مجاعة ضارية فاقمت الأوضاع والمخاطر على إنسان كادوقلي، كما أن الحصار تعدى كونه حصاراً اقتصادياً، ليصبح حصاراً سياسياً واجتماعياً، حيث نتج عنه قيود من حديد تمنع المواطنين والأجسام النسوية والحقوقية من الحديث، تقول إحدى الناشطات من كادوقلي: “قبل الحرب كنا قد خطونا خطوات حقيقية في سبيل إنهاء أشكال العنف ضد النساء، لكن اندلاع الحرب أعادنا آلاف الخطوات إلى الوراء”. تعكس هذه الشهادة شعور الإحباط العميق بين النساء الفاعلات في الميدان، والوعي الحاد بحجم التراجع الذي فرضته الحرب.

تراجع النشاط النسوي والتحديات المجتمعية والاقتصادية

رغم أن كادوقلي تُعد من المناطق التي شهدت نشاطًا نسويًا ملحوظًا في السنوات الماضية، تمثل في محاولات جادة لتوحيد الجهود النسوية لمواجهة التحديات الاجتماعية المتجذّرة كالعنف القائم على النوع الاجتماعي، والهيمنة الذكورية، والتهميش الاقتصادي، إلا أن النساء في المنطقة واجهن عقب اندلاع الحرب عراقيل متزايدة حالت دون مشاركتهن في الفضاءين الحقوقي والسياسي. تفاقمت هذه التحديات مع حرمان النساء من فرص العمل المدر للدخل، وتكريس أدوارهن في المهام المنزلية فقط، مما أدى إلى ظواهر جديدة كاتساع رقعة التسوّل بين النساء نتيجة توقّف أعمال الرجال وتدهور الوضع المعيشي.

وما زاد الوضع تأزمًا هو العزلة القسرية التي فرضتها ظروف الطوارئ والحصار على النساء، والتي منعت تواصلهن وتنظيم صفوفهن أو حتى التشاور حول قضاياهن اليومية. فالجسم المخوّل بإدارة الأوضاع في الولاية، وهو “اللجنة الأمنية”، يتعامل مع قضايا النساء بتجاهل كامل، لدرجة عبّر عنها بعض السكان بالقول: “لا يُسمح حتى بوجود امرأة واحدة ضمن دائرة اتخاذ القرار.” وهذه العبارة لا تشير فقط إلى الغياب الرمزي، بل تؤكد إقصاء النساء التام من مواقع التأثير والنقاش. ونتيجة لذلك، باتت القرارات المتخذة تفتقر إلى أدنى وعي أو استجابة لاحتياجات النساء، ما عمّق الفراغ السياسي والاجتماعي الذي يعاني منه المجتمع النسائي في كادوقلي.

بالإضافة لمنع اللجنة الأمنية بالولاية قيام أي من الفعاليات تجمع النساء للحديث عن قضاياهن و أولوياتهن، خلال شهري مايو ويونيو 2025، تم اعتقال خمس ناشطات نسويات في كادوقلي بشكل متكرر، دون أن يجدن أي دعم منسق أو وقفة تضامن نسوية. هذا الصمت يوضح حجم التفكك والانكماش الذي تعاني منه الحركة النسوية في المدينة بسبب القمع والخوف والعزل.

قبل الحرب كانت مفوضية العون الإنساني هي المسؤولة عن الأجسام المدنية، وبعد إعلان حالة الطوارئ تم إضافة العديد من التعقيدات في عملية إصدار التصاريح، حيث صارت الإجراءات البيروقراطية تتطلب كتابة مقترح للجنة الأمنية، وبعد موافقة اللجنة الأمنية يجب الحصول على موافقة أخرى من جهاز الاستخبارات، ومن ثم موافقة أخرى من المفوضية.

مكتب الإجراءات بمفوضية العون الإنساني يتكون من أفراد جهاز الأمن من الرتب العليا يسيطرون على عمل المنظمات الدولية والوطنية عبر استخراج التصاريح وتعديلات نوعية الأنشطة لتوافق سياسة حكومة ولاية جنوب كردفان، وعدم الالتزام بالتعليقات والتعديلات التي يجرونها يقود المنظمات إلى الإيقاف كما حصل في منتصف أبريل 2025، تم إيقاف عدد 25 منظمة فاعلة في العمل الإنساني، 5 منها دولية و20 منها وطنية شبابية ونسوية.

طبع المجتمع مع العديد من الانتهاكات ضد النساء، حيث أصبح العنف الجسدي والنفسي والعنف الأسري أمراً عادياً، مما خلق أشكالاً جديدة وممنهجة في واقع الحرب مثل الاستغلال الجنسي في دور الإيواء والأحياء الطرفية، والاتجار بالجنس كبديل عن الاقتصاد التقليدي للنساء في المنطقة.

انتشار وزيادة الظواهر الاجتماعية السالبة ضد النساء كالعنف الأسري، زواج القاصرات/الطفلات، والاستغلال والانتهاك الجنسي في ظل وصمة العار وغياب العدالة والقانون.كما أن غياب الجمعيات النسوية التعاونية ومجموعات القهاوي الاقتصادية أدى إلى انتشار ظاهرة التسول وسط الفتيات والتجارة الجنسية مقابل المال والغذاء مما أضعف  قدرات ومهارات النساء في المجالات المدنية والنسوية والتعليمية المواكبة للتطورات التكنولوجية الحديثة، وأعدمت فرصهن في التطوير وتبادل المعرفة مع النساء الأخريات ونشر الوعي.

حين تُقصى النساء من فعل الطوارئ، نجد جميع التدخلات المفروضة من حكومة الولاية ومن خارج الحركات القاعدية والنسوية لا تلبي هذه القضايا الضرورية وخاصة احتياجات النساء المتأثرات بالنزاع، حيث لا توضع أي خطة لهذه الاحتياجات في حالات الطوارئ (كقضية العنف الأسري والاستغلال والانتهاك الجنسي)، بل وتعتقد الأجسام أنها قضايا يسهل التعامل معها ولن تُدرج في بند الطوارئ.

“ضمن غرف الطوارئ، يسيطر الرجال على اتخاذ القرارات، رغم وجود نساء إلا أنه يتم حصرهن في الأعمال المتعلقة بالغذاء، ما حصل غرفة طوارئ وزعت حقائب كرامة على النساء في دور الإيواء أو انتبهت لجرائم العنف والاستغلال الجنسي التي تحصل”.

كل ذلك ألقي بظلاله عواقب وخيمة على نساء وفتيات مدينة كادوقلي مثل غياب الوعي النسوي بقضاياهن وأولوياتهن كنساء يقعن تحت الحصار والحرب ومنهجة التهميش، وتغييب فرص تبادل الآراء والخبرات التي أثرت على إعلاء صوت مطالبهن، وأيضا غياب المناصرة والتشبيك بين الناشطات والقياديات النسويات، بسبب عدم فعالية أجسامهن وحظر أنشطة بعضهن، غاب دورهن في مؤازرة بعضهن البعض، فأصبحن عرضة للاعتقالات والتحذيرات والمراقبات الأمنية بلا مناصرة. من الأمثلة الدالة على العنف المؤسساتي ضد النساء، قصة ناشطة نسوية كانت تدير منظمة محلية تُعنى بتمكين النساء اقتصاديًا، تعرضت للاعتقال أربع مرات بعد اندلاع الحرب، إلى أن اضطرت لمغادرة الولاية. تبع ذلك تفكك الفريق العامل معها، نتيجة للوصمة التي لاحقت المؤسسة، مما أدى إلى توقف النشاط تمامًا.

هذا جعل  تحقيق إرادة الجهات الأمنية في عزل النساء عن بعضهن البعض وعن مجتمعاتهن، وبلا شك له أبعاد سياسية واجتماعية وخيمة على النساء في القريب العاجل كالإبعاد من المشاركة في اتخاذ القرارات واتخاذ القرارات بالنيابة عنهن.

بالرغم من القبضة الأمنية، والحصار، وانعدام الوصول للإنترنت، إلا أن  أصحاب المصلحة الواقع عليهم/ن الضرر اقترحوا/ن بعض الحلول الصعبة باعتبار السياق لكن  الممكنة بحكم الضرورة:

  • توفير فرص الحوارات والنقاشات النسوية غير الرسمية عبر إعادة مجموعات القهاوي في الأحياء و”لمات” الأصدقاء وتنشيط الجمعيات النسوية التعاونية وغيرها من المناسبات التي لا تتطلب إجراءات حكومية رسمية.
  • إنشاء قناة تواصل ومناصرة وتبادل معلومات وخبرات بين القياديات بالمنطقة.
  • توفير آليات الدعم القانوني وأنظمة الحماية لنساء بالمنطقة.
  • رفع الوعي لدى المجتمع بأنماط العنف المبني على النوع الاجتماعي وإنهائه.
  • توفير منصات تدريب وبناء قدرات للفتيات والنساء في كافة المجالات التعليمية والتكنولوجية.
  • التدريب على التواجد الفعّال في الإنترنت بصورة آمنة، وإيجاد بدائل للمناصرة والتواصل على الأرض.

نعلم كنساء سودانيات ونساء كادوقلي خاصة،  أننا نعيش تحت تهميش سياسي ومجتمعي ممنهج لإسكات أصواتنا، وأننا جزء من آثار العدوان على البلاد، لكن الحرب لا تبرر أن تتكالب علينا الانتهاكات وكأننا مجرد أضرار جانبية.

لا نقبل أن نكون مجرد مقدمات خدمة، نعمل في التكايا ودور الإيواء، ونحافظ على استمرارية البقاء والمقاومة، لنستجدي أقل حقوقنا في الأمان والحياة الكريمة. فإن إنتاج نفس الأخطاء، يقود لإنتاج ذات الأزمة.

تعريفات مهمة

  • اللجنة الأمنية : هي  جسم مكون من خليط من الأجهزة الأمنية و السياسية  (جيش، شرطة،استخبارات ،جهاز أمن،قوات مهام خاصة ومقاومة شعبية برئاسة والي الولاية  وعضوية بعض الوزارات) وهي بمثابة المجلس التشريعي للولاية .
  • منذ دخول كادوقلي دائرة الحرب في يونيو تم اعلان تفعيل قانون الطوارئ وعبره تتم اعتقالات الفاعلين و الناشطين بتهم جرائم ضد الدولة بمواده المختلفة والمعقدة.
  • مجموعات القهاوي الاقتصادية: هي عبارة عن مجموعات نسوية غير رسمية تنشئها النساء باحيائهن و تضم النساء ذات المسافات الأقرب للبعض (الجيران) يتم عبرها جلسات اجتماعية كل نهاية اسبوع بمنزل إحداهن يتشاركن فيها احتساء القهوة ومشتقاتها و بنهاية الجلسة يتم جمع الاشتراك الاسبوعي وفق المبلغ المتفق عليه وتسليمه لصاحبة مكان الجلسة و هكذا بالترتيب وفقا لإجراءات القرعة الأولية. 
  • كيس الكرامة (Dignity Kit): هو مجموعة من الضروريات التي توفرها منظمات الإغاثة للنساء والفتيات لمساعدتهن على الحفاظ على النظافة الشخصية والكرامة، خاصة في أوقات الأزمات مثل الكوارث الطبيعية أو الحروب. يبدأ توفير هذه الأكياس عادةً استجابةً للاحتياجات الملحة للنساء والفتيات خلال الأزمات، حيث تهدف إلى توفير أدوات بسيطة لكنها ضرورية للمحافظة على النظافة الشخصية والكرامة. 

استكشاف المزيد

الحلقة التاسعة والاخيرة: رسائل مفتوحة لنشطاء ما بيعرفوني، لكن بيقرّفوني

الرسالة الأولى: “عزيزي الناشط المؤثر في كل المنصات… والمختفي في كل الميادين” يا أخوي، ما مشكلتي إنك نشط.مشكلتي إنك ممثل.بتنزل صورك وأنت بتوزع مساعدات، وما بتذكر اسم الزولة الشغّالة من الفجر بتطبخ.بتكتب: “دعمت مراكز إيواء”، لكنك ما قضيت يومًا واحدًا في مركز حقيقي. لو ما حاسي بالناس…خلِّي الفيسبوك وادخل إحدي

أكمل/ي القراءة

حين تكون الدورة الشهرية عبئاً إضافياً في الحرب…

“نسوان الخرطوم، بس البرمن قروشهن في الحمام..”كان هذا تعليق إحدى الشابات في احدى القرى عندما رأت فتاة تشتري علبة فوط صحية من بقالة الحي… هذا التعليق ليس جهلا، وإنما نتيجة عقود ممتدة من تجاهل أهمية الصحة الجنسية والإنجابية في السودان، وحصر الخدمات في تنظيم الأسرة وحملات النظافة الشخصية، ليس من

أكمل/ي القراءة