وحدة التوثيق و الاعلام
تعيش كادوقلي اليوم حالة اختلال بنيوي في علاقتها مع الفضاء العسكري. فالمعسكرات والقواعد تنتشر في قلب الأحياء السكنية، وتقاسم السكان المساحة و السكن. لم تعد الأراضي الجبلية، التي كانت تُستثمر تقليديًا في الزراعة والرعي، متاحة للسكان، بل أصبحت مواقع مغلقة خاضعة للجيش.إن الدبابات الثقيلة والمدفعية لا تكتفي للتموضع داخل الأحياء، بل تستخدمها كنقاط انطلاق للرد على هجمات المعارضة المسلحة، ما يجعل السكان دروعًا بشرية غير معلنة.
إن احتلال الجيش لهذه المساحات الزراعية، في منطقة تمتلك مقومات اكتفاء ذاتي نادرة – جبال تسور المدينة، أراضٍ خصبة، مناخ مساعد – يمثل تدميرًا ممنهجًا للبنية الاقتصادية التقليدية، ويحوّل المدينة إلى مركز استهلاك قسري غير مُنتِج، مما يرسّخ التبعية ويقوض مفهوم السيادة الشعبية على الموارد.
هذا المقال لا يدّعي الإحاطة الكاملة بما يجري في كادوقلي، بل هو محاولة أولية وبسيطة لـ كشف جزء يسير من واقع مأساوي معقد لا تكفيه الكلمات ولا تحيط به التقارير. إن ما يُكتب هنا لا يتجاوز “خدش السطح”، في حين أن المعاناة الحقيقية أعمق، وأشد قسوة، وأبعد أثرًا مما يمكن التعبير عنه.
يجدر التنبيه أيضًا إلى أن الوصول إلى المعلومات الدقيقة حول ما يحدث في كادوقلي أمر بالغ الصعوبة والخطورة، في ظل سيطرة قوات مسلحة متعددة، وتقييد للحريات، وترهيب ممنهج يستهدف كل من يحاول توثيق أو إيصال الحقيقة.
أما على المستوى الوطني، فإن التجاهل الجماعي الذي يُقابل به ما يحدث في كادوقلي يطرح أسئلة أخلاقية مؤلمة. فالصمت واللامبالاة، سواء من الإعلام أو المجتمع السوداني الأوسع، يعيدان إنتاج نفس الأنماط التاريخية التي شهدناها خلال حروب الجنوب ودارفور، حين تم التعامل مع الكارثة على أنها “قضية تخص الآخرين”.
في قلب السودان، تقبع مدينة كادوقلي، عاصمة ولاية جنوب كردفان، كمرآة مكبرة لانهيار الدولة وتفكك المجتمع في ظل حرب متعددة الأطراف. وبينما ينشغل الخطاب العام بميادين المعارك الكبرى، تمر معاناة المدنيين في كادوقلي بصمت، وسط جغرافيا محاصرة، واقتصاد متهالك، وبيئة اجتماعية تختنق تحت وطأة القمع والتجويع.
انعدام الأمن الغذائي وصعود السوق السوداء
تحوّلت كادوقلي، في ظل هذا الحصار المزدوج (العسكري والإداري)، إلى ساحة للمضاربة والابتزاز الاقتصادي. لم تعد الذرة والفول – وهما من المحاصيل الأساسية – متوفرين في المنازل. الأسر تبحث عنها في السوق، لكن السوق بدوره أصبح مسرحًا للفوضى والاحتكار. ففي هذا الواقع، أصبحت “ملوة الذرة” تُباع 30,000 جنيه، بينما يقف المواطنون لساعات في طوابير طويلة بحثًا عن ما يسدّ الرمق. لم يعد الخبز سلعةً يومية، بل مشهدًا مأساويًا يُعيد نفسه كل صباح وسط عجز كامل عن التدخّل أو التنظيم. وفي الوقت الذي يُمارس فيه هذا الضغط الاقتصادي على الأهالي، تُقابل أي محاولة لتوثيق المعاناة بردّ قمعي مباشر، وكأن الجوع نفسه ليس المشكلة، بل رؤيته هي الجريمة.
ردّ السلطات لم يكن على مستوى الأزمة، بل على مستوى الصورة: منع التوثيق، مطاردة الكاميرات، والتعامل مع أي فعل توثيقي بسيط كأنه تهديد أمني. تُحاصر المعاناة بالقوة، ويُراد لها أن تبقى صامتة وغير مرئية. هذا التشدّد في قمع السرد الشعبي لا يكشف فقط عن خوف من الفضيحة، بل عن نظام يرى في الرواية الحرة خطرًا أكبر من الجوع ذاته. بهذا، يتجاوز الحصار بعده المادي، ليصبح أيضًا حصارًا على الحقيقة، وتجريمًا للذاكرة، وفرضًا للقهر لا على البطون الخاوية فحسب، بل على كل من يحاول أن يقول ببساطة: “نحن جياع”.
في ظل هذا الحصار و القمع، يُطلب من المشتري الدفع نقدًا، مع أن النقود شحيحة والبنوك لا تعمل، أما من يتعامل عبر الحسابات المصرفية (إن وُجدت)، فيُجبر على الشراء بأسعار مضاعفة، حيث فرض التجار أنظمة تعامل جائرة، إذ يقومون بخصم ما يصل نسبته إلى 30% من أي مبلغ محوّل، ويُفرضون على الزبائن استخدام المبلغ المتبقي لشراء سلع مختارة مسبقًا من التاجر، غالبًا بأسعار تفوق قيمتها الحقيقية. هذا يعني أن الحصول على الأساسيات يتم بشروط لا ترحم، وبتكلفة مرهقة لإنسان كادوقلي.
النقد لم يعد وسيلة للشراء فحسب، بل سلعة قائمة بذاتها تُباع مقابل خصومات قسرية، في ظل غياب أي رقابة أو تدخل رسمي. هكذا، تحوّلت الحاجة اليومية إلى فرصة للنهب المنظّم، تغذّيه الفوضى وتواطؤ من يفترض بهم حماية المواطنين.
الأسوأ من ذلك، أن المرتبات الحكومية التي تصل إلى الناس بشكل جزئي غير مُبرر – (60% فقط) – لا يمكن إنفاقها إلا من خلال وسطاء معروفين، غالبًا من التجار الذين يحتكرون البضائع ويبيعونها بشروطهم الخاصة. الموظفون والجنود – على حد سواء – يجدون أنفسهم أسري لهذه المنظومة: مرتباتهم لا تكفي، ولا يمكنهم شراء ما يحتاجون إلا من جهة واحدة تحتكر العرض وتتحكم في الأسعار.
الحصار الإنساني وانسحاب المنظمات
منذ اندلاع الحرب في الخرطوم في أبريل 2023، أُغلق الطريق القومي المؤدي إلى كادوقلي، وتوقفت أي مساعدات حكومية أو إنسانية عن الوصول إليها. ومع تدهور الوضع الإنساني، بدأت المدينة تعتمد على خطوط إمداد بديلة عبر غرب كردفان وسوق النعام في دولة جنوب السودان.
لكن هذه “النافذة الجنوبية” أُغلقت لاحقًا بعد سيطرة مليشيات مسلحة بالتعاون مع قوات المعارضة على الطرق، وتهجير السكان في الريف الشرقي والغربي إلى داخل كادوقلي. في هذا الوقت الحرج، علّقت مفوضية العون الإنساني أنشطة أبرز المنظمات العاملة في المجال الإغاثي، دون تبرير رسمي، ما أدى إلى تفاقم الوضع المعيشي وانهيار منظومة الدعم الإنساني. توقفت مشاريع القسائم النقدية والمطابخ المجتمعية والتوزيع العيني، لتترك آلاف الأسر في مواجهة الجوع.
الانهيار الاقتصادي و تحوّل السوق إلى أداة قمع
تم اقتحام الأسواق والمخازن في مشهد من السخط الشعبي غير المنظم. ومع أن هذه الفوضى لم تكن منسقة أو مؤدلجة، إلا أنها كانت تعبيرًا صادقًا عن الغضب الشعبي تجاه التجار و السياسات المجحفة. لكن ما زاد من تعقيد المشهد هو دخول جماعات مسلحة غير منضبطة على خط الأزمة، ما حوّل لحظة الغضب الشعبي إلى ساحة تصفية حسابات بين تشكيلات عسكرية متعددة المصالح والانتماءات.
في ذروة الانهيار، شنّت إحدى هذه الجماعات حملة عنيفة لتفتيش المخازن بزعم مواجهة احتكار السلع، مستخدمة عربات عسكرية وأسلحة ثقيلة لبث الرعب وتثبيت حضورها، لا لفرض النظام، بل لإعادة توزيع الفوضى وفق منطق الغلبة. وتحوّلت الأسواق إلى مناطق اشتباك، حيث دخلت تشكيلات مسلحة أخرى – يُقال إنها تتبع لقوى نظامية – في مواجهة مباشرة مع القوة المهاجمة، ما أدى إلى مقتل عشرة مواطنين وتخريب السوق بالكامل.
هذا التداخل بين الجوع والنهب والقمع كشف عن واقع أعمق: تفكك السلطة المركزية، وتحوّل السوق من فضاء اقتصادي إلى ساحة قمع وعرض قوة. لم تعد السياسات تُدار عبر مؤسسات واضحة، بل من خلال مؤتمرات محلية وتحالفات ظرفية بين التجار والجماعات المسلحة، حيث يُمارس الضغط بالقوة، وتُفسَّر التمرّدات الشعبية على أنها تهديدات أمنية لا مطالب معيشية.
في المقابل فإن ردّ النظام المحلي لم يكن يهدف لمعالجة الأسباب، بل كان ردًا عقابيًا تقليديًا: نشر نقاط التفتيش الأمنية، فرض غرامات، وتوجيه تهم بالتعاون مع قوات المعارضة لكل من شارك في الاقتحامات. المفارقة أن الأسواق أُعيد فتحها لاحقًا دون وجود للتجار أو البضائع، فيما بقيت فقط القوات الأمنية والمواطنون الحائرون، يتجولون في فراغ اقتصادي تام.
تفكك إداري غير مسبوق
كادوقلي اليوم لا تُدار كمحلية واحدة، بل كمزيج فوضوي من أربع وحدات إدارية متداخلة. فإلى جانب محلية كادوقلي الرسمية، تتمركز ثلاث “محليات مستضافة” – البرام، أم دورين، وهيبان – التي أُجبرت على النزوح إلى المدينة بعد أحداث ما بعد 2011، إثر سيطرة الحركة الشعبية على مناطقها. الغريب أن هذه المحليات تمارس كامل نشاطها الإداري والاجتماعي والاقتصادي من داخل كادوقلي، بوحدات مستقلة ومديرين تنفيذيين خاصين بها، دون أي تنسيق مركزي.
هذا التفكك أدى إلى تعارض في الصلاحيات، وتكرار للموارد، وغياب للشفافية، ما يجعل أي جهد للإصلاح أو التخطيط أشبه بالمستحيل.
انهيار المنظومة الصحية وتسييس العلاج
تشهد كادوقلي انهيارًا شبه كامل في قطاع الصحة، حيث خرجت معظم المراكز الطبية عن الخدمة، ولم يتبقَ سوى مستشفى واحد يعمل بإمكانيات محدودة ودون توفر الفحوصات الأساسية أو الأدوية اللازمة. الصيدليات شبه فارغة، مما يعرض الجميع لمخاطر صحية كبيرة.
الأطفال حديثو الولادة يواجهون خطرًا حقيقيًا بسبب غياب الأمصال الأساسية، الأمر الذي ساهم في تفشي أمراض خطيرة وارتفاع وفيات الرضع، بينما تُعاني النساء من نقص حاد في الاحتياجات الصحية الخاصة، مثل عدم توفر الفوط الصحية والفيتامينات الضرورية، مما يؤدي إلى مضاعفات صحية خطيرة. تردّي الوضع الغذائي أدى إلى اعتماد السكان على وجبات بسيطة، مثل العيش واللوبيا، مع اختفاء الخضروات والفواكه تمامًا، ما ساهم في انتشار سوء التغذية وولادات منخفضة الوزن، وزيادة الوفيات بين الأطفال.
في ظل هذه الظروف، تقف فرق الطوارئ عاجزة عن تقديم المساعدة بسبب القيود الأمنية وغياب الأدوية، في وقت تُشن فيه حملات اعتقالات تستهدف بشكل خاص الشباب والناشطين، مما يزيد من حالة الخوف والشلل في المجتمع المدني. هذا الانهيار الصحي لا يقتصر على نقص الموارد فحسب، بل يشمل أيضًا تسييس العلاج والرقابة المشددة، حيث تتحول الخدمات الطبية إلى أداة تحكّم تُستثنى منها الفئات الأضعف، ويُترك المواطنون لمواجهة مصيرهم في ظل منظومة صحية منهارة ومفككة.
تهميش النساء وتحويل الدين إلى أداة للضبط الاجتماعي
رغم وجود وزيرتين في الحكومة المحلية، إلا أن دور النساء في كادوقلي شبه معدوم. عسكرة الفضاء المدني طردت النساء من مواقع التأثير، والمنظور الديني المحافظ الذي يُبث عبر المساجد ساهَم في تقويض أي نشاط اجتماعي نسوي، خاصة حين يتم ربطه زورًا بـ”التغريب” أو “الاختراق الأجنبي”. حتى الأنشطة الترفيهية البسيطة للفتيات، مثل سباقات العجلات أو ورش التفكير، تعرضت لهجوم شرس من منابر الجمعة، ما أدى إلى توقف الدعم والمنظمات الراعية.
وفي المقابل، وبينما تُقصى النساء من الفضاء العام وتُحمَّل وصمة التغريب متى ظهرن في أدوار تنظيمية أو ثقافية، تُدفع النساء في كادوقلي اليوم لحمل أعباء لا تطاق كمعيلات ضمن المنظومة الأسرية. مع غياب الأزواج الذين انخرط بعضهم في تشكيلات مسلّحة متناحرة، أُسندت للنساء أدوار متعددة في إعالة الأسر، وتدبير المعيشة، ورعاية الأطفال، في ظل شحّ الموارد وانهيار الخدمات. هذا التناقض الحاد بين القمع السياسي والديني من جهة، وتوقّع التضحية والصمود الاقتصادي من جهة أخرى، ولّد ضغطًا نفسيًا واجتماعيًا متزايدًا، خاصة مع غياب شبكات الحماية والدعم.
وفي هذا الفراغ، ظهرت أنماط بقاء قاسية، كان أبرزها تزايد اعتماد النساء – بل وحتى الأطفال – على التسوّل كمصدر دخل، ليس بدافع الكسل والتواكل كما تُصوّر بعض خطب الجمعة، بل كوسيلة قهرية لسدّ الجوع وسط انسداد الأفق وغياب الدولة. بهذا، لم تعد قضايا النساء مجرد هامش اجتماعي، بل مرآة حادّة تعكس انفجار التناقضات بين خطاب الضبط الأخلاقي ومتطلبات البقاء اليومي. فالمؤسسة الدينية في كادوقلي ، بدلًا من أن تكون ملاذًا روحيًا، أصبحت أداة توجيه سياسي وأمني، يتم عبرها التمهيد لقرارات القمع وإغلاق المنظمات الإنسانية.
مجتمع منهك وصامت
ربما المأساة الأعمق لا تكمن فقط في الجوع أو العسكرة أو القمع، بل في فقدان الأمل. المشهد اليومي في كادوقلي هو لمجتمع منهك، لا يستطيع حتى التفكير في الحلول. الجوع يُسكِت، والفقر يقهر، والقمع يكسر أي محاولة للتعبير. أما النشطاء المحليون، فقد تم استهدافهم وفرّ معظمهم إلى خارج المدينة، والباقون ينتظرون فقط فتح الطرق للهرب.
الناس تتحدث عن كادوقلي بمرارةٍ لا تعكس جلد الذات بقدر ما تعكس واقعًا تراجيديًا تُختزل فيه الحياة اليومية إلى صراع مستمر من أجل البقاء، في غياب كامل لأي أفق للتنمية أو للمشاركة الفاعلة في إعادة بناء السودان. فكيف لإنسانٍ جائع، يطارد لقمة عيشه من فجره حتى ليله، أن يفكر في التغيير أو في أي شأن سياسي؟ الجوع يسلب القدرة على الحلم، ويجعل من البقاء الهدف الوحيد الممكن.
ختامًا: حين يُختزل الوطن في “كاش” و”قفل شارع”
ما يحدث في كادوقلي ليس حالة استثنائية معزولة، بل تجلٍّ صارخ لانهيار الدولة، وهيمنة منطق الحرب على منطق الحياة. إنها مدينة تعيش داخل صفيح مغلق، محكومة بقواعد البقاء لا بقواعد المواطنة. مدينة لا تصلها الدولة إلا على هيئة دبابة أو مأمور شرطة، ولا تأتيها المعونة إلا عبر تهريب من دولة مجاورة.
إن ما يحتاجه أهل كادوقلي اليوم ليس فقط طعامًا أو فتح طريق – رغم أن هذا هو الاحتياج العاجل والمُلِح الذي يجب أن نسعى لتلبيته فورًا – بل يتجاوز ذلك إلى الحوجة لإعتراف سياسي والتزام أخلاقي وتضامن وطني يُخرجهم من دوامة التهميش إلى أفق الحياة الكريمة. فالمقاومة الفردية مهما عظمت، لا يمكنها أن تكون بديلًا عن مشروع وطني جامع يعيد للناس صوتهم، وللمكان إنسانيته.
المصادر:
- عينٌ على كادُقلي: حصار وجوع و احتجاجات نسويّة واعتقالات، موقع أتَر يوليو 2025.
- https://x.com/YousifAlneima/status/1946126619598319714?t=PvY8ycibiyn1Vlysx6owNQ&s=09
- https://x.com/FaridaWahid23/status/1947997048768196978?t=Bf_8d8DCOwMUzYHI_zAvxg&s=09
- https://web.facebook.com/story.php?story_fbid=1472862687489340&id=100042968670297&mibextid=wwXIfr&rdid=EUci3dkmkIuke63A#

