الحلقة الثالثة: ورقتي المنسيّة… الحقيقة التي لم تُروَ

ذاكرتي تشبه مدينة قديمة، أزقتها ضيقة، وممراتها مزدحمة بحكايات لم تروى، أغلبها عن المجتمع المدني. وهذه المرة، اخترت أن أروي لكم واحدة من تلك القصص التي لا تُكتب في التقارير، ولا تُعرض في “السلايدات” الملوّنة.

بعد عام من انقطاعي عن العمل المدني واتجاهي للقطاع الخاص، عاد إليّ الحنين للبحث والكتابة. في صباح عادي، تواصلت معي مديرة تنفيذية لإحدى المنظمات الصغيرة التي تطوّعت بها سابقًا، لتعرض عليّ فرصة المشاركة في مشروع بحثي — “تطوعًا”، بالطبع.

لم أتردد. رتّبت وقتي، ووافقت. لم يكن هناك عقد، فقط وعد شفهي بأنه “بمجرد ما تستقر الظروف، بنرسل ليك العقد”. وصدقًا، كان هذا خطئي الأول.

شرعت في العمل. ثلاث شهور متواصلة من القراءة، جمع البيانات، التحليل، الكتابة. اختفى معظم الفريق “المتطوع” بالتدريج، وبقيت وحدي مع مدير الفريق، الذي لم يكن له أي دور بحثي يذكر. لم يكتب، لم يراجع، لم يُنقّح. كل ما فعله هو تنسيق بعض المقابلات لي، بينما التنقيح و الإشراف البحثي قام به مستشار خارجي – كان يتعاون مع المنظمة في عدة مشاريع.

كتبت الورقة كاملة. كل فقرة فيها كانت ثمرة تعب وسهر وأمل. ظننتها بوابة بداية جديدة في حياتي المهنية. أرسلتها لمدير الفريق قبل الموعد النهائي بأسبوعين… وانتظرت.

صمت.

بعد أسبوع، راسلته للسؤال. أجابني بجفاف: “المشروع اتلغى”. لا تبرير، لا نقاش، لا حتى جملة شكر.

تواصلت مع المديرة التي بادرت بالتواصل معي، فقالت إن “الجهة المانحة سحبت التمويل”. لكن لحظة… ألم يكن المشروع بتمويل داخلي؟ ألم يكن هذا هو سبب “التطوع” أصلاً؟

جادلتهم طويلا، وعندما فشلت كل مساعي لإيجاد توضيح، طالبتهم بعدم استخدام الورقة في أي شيء. وانتهى الأمر… أو هكذا ظننت.

ثمانية أشهر مرّت. وفي أحد الأيام، أرسلت لي صديقة رابطًا لورقة بحثية منشورة باسم “مدير الفريق”. أنكر عقلي الحقيقة في البداية، لكن عيني لم تخطئ. كانت هي… ورقتي. نفس المحتوى، نفس التحليل، نفس اللغة. الفرق الوحيد؟ اسمي كان مدرجًا كمجرد “جامعة بيانات”.

حاولت المطالبة بحقي. ضغطت، هددت بالتواصل مع المنصة، وبالفعل… أزيلت الورقة. لكن الاعتذار؟ لم يأتِ. ولا حتى كلمة اعتراف.

اليوم، ذلك المدير يعيش في الخارج، يحمل صفة “باحث”، ويتلقى التصفيق على جهد لم يبذله. وأنا؟ ما زلت أبحث عن مساحة أكتب فيها دون أن يُسرق صوتي.

ليست هذه القصة عن السرقة فقط، بل هو مثال صارخ عن كيف يُختزل جهد الأفراد في أطر استغلالية، كيف تُقمع الأصوات الأصيلة لصالح نخب تدير المشهد لصالحها، في بيئة تدّعي العدالة وهي تمارس الإقصاء. 

إن قضية الإقصاء في فضاء المجتمع المدني أعمق بكثير من مجرد مواقف شخصية أو خلافات في الرأي؛ إنها في جوهرها صراع على الموارد والنفوذ. بعد سنوات من العمل في هذا المجال، أدركت أن كثيرًا من حالات التهميش لم تكن بدافع قناعات مبدئية، بل نتيجة خوف من المنافسة. فـ”التمكين” الذي يُرفع شعارًا في كل محفل، يتحوّل في الواقع إلى لعبة مغلقة ما إن يظهر أشخاص يمتلكون الكفاءة والقدرة الحقيقية. في لحظة، تتحول صفتك من كونك “زميل/ة” إلى أن تُصنّف “كمنافس محتمل”، لأن عدد المقاعد محدود، ومصادر التمويل أقل، وكل فرد يسعى إلى تأمين موقعه قبل أن يفكر في القضية أو المصلحة العامة.

الصراعات داخل هذه المنظمات ليست فكرية أو تنظيمية فحسب، بل تنطوي أيضًا على بُعد طبقي واضح. من يملك اللغة الصحيحة، والعلاقات المناسبة، هو من يستمر ويصعد، أما من لا يملك سوى الشغف والكفاءة والعمل الميداني الحقيقي، فيبقى غالبًا على الهامش. في النهاية، تُكتب المشاريع لا لخدمة المجتمع، بل لإقناع الممول؛ وتتكرر الوجوه نفسها، وتتزيّن الرسائل بخطاب جذاب لا يعكس الواقع السوداني، بل يراعي مزاج الممول الأجنبي.

انا زولة ساي.
وهذه ليست حكايتي انا فقط، بل حكاية كثيرين لم تُكتب أسماؤهم … حتى على هوامش الورق.

استكشاف المزيد

الحلقة التاسعة والاخيرة: رسائل مفتوحة لنشطاء ما بيعرفوني، لكن بيقرّفوني

الرسالة الأولى: “عزيزي الناشط المؤثر في كل المنصات… والمختفي في كل الميادين” يا أخوي، ما مشكلتي إنك نشط.مشكلتي إنك ممثل.بتنزل صورك وأنت بتوزع مساعدات، وما بتذكر اسم الزولة الشغّالة من الفجر بتطبخ.بتكتب: “دعمت مراكز إيواء”، لكنك ما قضيت يومًا واحدًا في مركز حقيقي. لو ما حاسي بالناس…خلِّي الفيسبوك وادخل إحدي

أكمل/ي القراءة

حين تكون الدورة الشهرية عبئاً إضافياً في الحرب…

“نسوان الخرطوم، بس البرمن قروشهن في الحمام..”كان هذا تعليق إحدى الشابات في احدى القرى عندما رأت فتاة تشتري علبة فوط صحية من بقالة الحي… هذا التعليق ليس جهلا، وإنما نتيجة عقود ممتدة من تجاهل أهمية الصحة الجنسية والإنجابية في السودان، وحصر الخدمات في تنظيم الأسرة وحملات النظافة الشخصية، ليس من

أكمل/ي القراءة