الحلقة الثانية: المستنقع وما تحته

تمر السنوات ، و تستمر معها رحلتي عميقا داخل المجتمع المدني السوداني، كنت اظنني اتعمق بعيدا في غياهب نهر من الثقافة، ولكن، ما كنت أدري أن قدماي تنغمسان في قاع مستنقع قذر!

عملت في العديد من المنظمات،  منظمة بعد منظمة، و إن لم يكن كلمة “عمل” كفيلة بوصف ما كنت افعله حقا، لأكون أكثر صدقا معكم ، لقد كنت أتطوع واساهم ، في بعض الأحيان كان يلوحون لي بين الفينة و الأخرى بأنه قريبا ستحصل المنظمة علي تمويل كافي لدفع تكاليف رواتبنا، ولكن فقط بعد هذا المشروع، و تمر المشاريع، واحدا تلو الآخر، و يتساقط رفاقي “من المتطوعين” و لكن انا لم اكن اعمل لأجل المال ، أو لم أخبركم مسبقا بأنني “زولة ساي” و “ساذجة”، ظننت انني اعمل لهدف ، “لخلق تغيير و”لصنع مستقبل أفضل”، و النكتة الكبرى، ظننت انني اعمل لأجل هذا “الوطن” ،  لكن يبدو انني كنت اعمل لملء جيوب مدرائي في المنظمة! كنت أعمل لأُضيف سطرًا في ملف تمويل، وأعبّئ تقارير تُرفع لأجل المانحين، ويُعاد تدويرها في صالونات مكيفة لا تعرف رائحة الميدان.
كل واحدة من هذه المنظمات كانت ترفع شعار “بناء السلام”،
لكن بداخلها صراعات، حقد طبقي لا ينتهي،
و الجميع كان يلهث لجمع النقاط عند المانحين.
زول بيشتغل عشان الدولار،
و زول تاني بيشتغل عشان الصور،
و زول تالت يقول ليك: “ممكن تكتبي البروبوزال وأنا أقدّمه؟ “.
أنا! انا زولة ساي

لكنني و ان كنت زولة ساي، و مهما بلغ بي الصبر و طول البال، فقد طفح الكيل وبلغ السيل الزبي، خرجت من المجال، ما عدت احتمل الابتسامات الصفراء ،، و صار الوقت يداهمني، يجب ان اجد عملا يكفل لي عيشا كريما و مرتبا ثابتا ، فلذت بالقطاع الخاص في 2020 ، 3 سنوات تنعّمت فيها ببساطة العلاقات و وضوح التوقعات: تعمل، فتُقيَّم بناءً على إنتاجك فقط، وتنتهي علاقتك بزملائك عند نهاية الدوام. لا أحلام كبيرة، لا شعارات، لا وعود بتغيير العالم. وكان الدخل المستقر حينها ضرورة، لا ترفًا، فقد ضاقت الخيارات وكنت أبحث عن الحد الأدنى من الأمان الاقتصادي. كان الفرار للقطاع الخاص في ذاك الوقت شكلا من أشكال الراحة، ليس لأنه يمتاز “بالمثالية” ، ولكن لأنه لا يدعيها. حينها لم أقطع صلتي تماما بميادين العمل العام ، حيث كنت أتطوع بين الفينة و الأخرى بمنظمة و اخرى لاداء بعض المشاريع القصيرة، حيث قد طالني اليأس و ما عدت احتمل الاحتكاك مع “المثقفاتية” 

سرعان ما حل العام 2023، و حلت معه الغمة على  الخرطوم

أعادتني الحرب مرة أخرى للمستنقع ،لم يتغير شئ و لكن الوضع الأن يستدعي مني ذلك

نفس المشاهد.
نفس الوجوه.
نفس الغرف المغلقة،
والأصوات العالية،
و الكراهيات المختبئة خلف الشعارات.

ها انا اليوم ، نازحة و لكني لازلت  زولة ساي

وإن كنت قد تعلمت شيئا خلال العقد المنصرم، فهو أننا كسودانيين نعشق الصمت ، نتشدق بأصواتنا لنتحدث عن كل شيء، ولكن ما يجب أن نتحدث عنه فعلا، لا نأتي بذكره ابدا، وعليه قررت ان اكسر حاجز الصمت هذا، و ان اكسر معه أصنام المجتمع المدني في هذه البلاد،

لهذا سأخذكم معي في هذه الرحلة
هي رحلة في العتمة
رحلة في ما خلف الصور، خلف الورش، خلف اللقاءات المتلفزة.

أدعوكم لتغوصوا معي في هذا المستنقع، لا بحثاً عن وهم الخلاص، بل لعلنا نكتشف متى بدأت العفونة تستشري في أعماقه، و كيف صرنا رابضين في هذا القاع الموحل دون أن ننتبه.

لكن قبل أن أبدأ بتوجيه نقدي لأي أحد، لابد أن أكون صادقة مع نفسي أولًا.

أنا نسوية، نعم، أؤمن بالعدالة والمساواة والتحرّر، لكنني أيضًا كنت جزءًا من هذا المستنقع. 

رأيت الظلم، و مررت بمحطات صمت كثيرة. صمت لم يكن عن جهل، بل عن خوف أحيانًا، أو تعب، أو حتى أمل خادع في أن “الأمور ستتغير.”

ظننت أن التغيير يحتاج صبرًا، فصبرت، ثم اكتشفت أن الصبر في بعض الأحيان تواطؤ مغلف بالنوايا الطيبة.

النسوية ليست شعارًا نعلقه، بل مسؤولية. وأنا، زولة ساي، لم أكن دائمًا على قدر هذه المسؤولية. وسكوتي، وإن كان مؤقتًا، ساهم في ترسيخ الوحل ذاته الذي انتقده اليوم.

انا زولة ساي. و لأني زولة ساي ما عندي حاجة اخسرها ، حاتجرأ و احكي الحكاية
مش عشان أعجبكم،
ولا عشان أجمع نقاط شهرة ، و لا عشان اثير الجدل
ح احكي عشان لو في واحدة قاعدة تقرأ، وحاسة نفسها “ساي”…
تعرف إنها ما براها

و عشان افتح عيوننا على الوحل النحن غاطسين فيه عسى ولعل أن نجد طريقا للخروج منه قبل الغرق

يبقى السؤال:
هل نحن فعلًا راغبون/ات في الخروج؟
أم أننا وقعنا في حب المستنقع… فقط لأنه يُشبهنا أكثر من النهر؟

أنا زولة ساي.
وسأحكي الحكاية.

استكشاف المزيد

الحلقة التاسعة والاخيرة: رسائل مفتوحة لنشطاء ما بيعرفوني، لكن بيقرّفوني

الرسالة الأولى: “عزيزي الناشط المؤثر في كل المنصات… والمختفي في كل الميادين” يا أخوي، ما مشكلتي إنك نشط.مشكلتي إنك ممثل.بتنزل صورك وأنت بتوزع مساعدات، وما بتذكر اسم الزولة الشغّالة من الفجر بتطبخ.بتكتب: “دعمت مراكز إيواء”، لكنك ما قضيت يومًا واحدًا في مركز حقيقي. لو ما حاسي بالناس…خلِّي الفيسبوك وادخل إحدي

أكمل/ي القراءة

حين تكون الدورة الشهرية عبئاً إضافياً في الحرب…

“نسوان الخرطوم، بس البرمن قروشهن في الحمام..”كان هذا تعليق إحدى الشابات في احدى القرى عندما رأت فتاة تشتري علبة فوط صحية من بقالة الحي… هذا التعليق ليس جهلا، وإنما نتيجة عقود ممتدة من تجاهل أهمية الصحة الجنسية والإنجابية في السودان، وحصر الخدمات في تنظيم الأسرة وحملات النظافة الشخصية، ليس من

أكمل/ي القراءة