الحلقة السابعة: مناشدة جادة

واقع العمل المدني في السودان: اعتراف ضروري قبل انتشار العفن

في قلب المجتمع المدني السوداني، حيث يُفترض أن تكون المظلة التي تحتضن النضال من أجل حقوق الإنسان، العدالة، والتنمية المستدامة، يكمن واقع مختلف تمامًا عن الصورة البراقة التي تُسوّقها المؤسسات والمنظمات. الواقع الذي يتنكر خلف شعارات «التغيير»، «التمكين»، و«العدالة الاجتماعية»، هو مستنقع من التنافس على المناصب، التحيزات الطبقية، النزاعات الشخصية، والفساد الذي يهدد مصداقية ومهمة القطاع برمته.

ففي هذا المستنقع و بعد أكثر من نصف قرن من النشاط المدني والعمل العام، لا تزال البنى التنظيمية للمجتمع المدني هشّة، غير قادرة على إنتاج سرديات نابعة من واقع الناس، ولا على بلورة أدوات نضال تعبّر عن السياق المحلي. الكثير من المؤسسات ما زالت تشتغل بلغات المستعمر — حرفيًا ومجازًا — وتُدار بعقليات استبعادية تحتفي بـ”الخبير” وتتجاهل صوت القاعدة. هذا الفشل ليس عرضًا، بل هو نتيجة مباشرة لغياب النقد الذاتي، وتكرار نفس النماذج النخبوية، واعتماد أدوات تمويل وصياغة مستوردة تفصل العمل المدني عن قضايا الشارع.

أزمة الهوية والفعالية

منذ التحاق العديد من الشباب/ات بالعمل المدني، ترافق الحماس والاندفاع مع خيبة الأمل المتكررة. غالبًا ما تبدأ القصص في منظمات غير ربحية تحمل شعارات راقية، لكنها تفتقر إلى التنظيم الحقيقي؛ حيث تسود لغة المثقفاتية والمصطلحات الإنجليزية، لتعبر عن حالة من الفراغ الفكري والافتقار لروح الفريق. الصراعات الشخصية بين المدراء التنفيذيين، ومدراء المشاريع، والمتطوعين لا تهدأ، بينما يظل الجميع يردد في اجتماعات المانحين عبارات جوفاء مثل: «نحن نؤمن بالتغيير الحقيقي». لكن الحقيقة لا تكذب: الكل يبحث عن المنصب، السفر، أو حتى صورة «المناضل» على وسائل التواصل الاجتماعي.

احتقار المتطوعين وتجفيف التمويل

المتطوعون، الذين يُفترض أنهم عماد هذا القطاع، يتعرضون لإحتقار ممنهج، ومن ثم تأتي رسالة الإيقاف المفاجئة للأنشطة بسبب «عدم توفر التمويل». والترجمة الحقيقية لهذه الرسالة هي أن «المانحين لا يشترون العمل الحقيقي ما لم يكن مصحوبًا بصورة مؤثرة ودرامية». إننا بذلك لا نبني مستقبلًا مستدامًا بل نبيع قصص معاناة مزيفة تُستغل في السوق الدعائية.

لكن المسألة أعمق من ذلك: العنصرية والجهوية في الفضاء المدني تُعيد إنتاج نفس أنماط الإقصاء التي يزعم هذا القطاع محاربتها. المتطوعون من خلفيات اجتماعية أو جغرافية “غير مرغوبة” غالبًا ما يُدفعون إلى الهامش، حيث تُستغل جهودهم و من ثم  يُقصون من القيادة، ويُمنعون من التطور أو حتى من مغادرة مواقعهم “المفيدة” في الواجهة، فأحيانًا، يُستخدم وجودهم فقط لإعطاء صورة زائفة عن الشمول والتنوّع داخل المنظمة — مجرد ديكور بشري لتجميل التقرير السنوي. بهذه الديناميكية، نظل رابضين في قاع هذا المستنقع لا لنبني مستقبلًا مستدامًا، بل لنُعيد تدوير نفس السُلّم الطبقي بلغة أكثر أناقة.

العزلة والابتعاد نحو القطاع الخاص

العديد من النشطاء يختبرون إحساسًا عميقًا بالخذلان بعد “تجميد أعمالهم”، فيجلسون بلا عمل ولا هوية، محاطين بإحساس ثقيل باللاجدوى. لكن القصة لا تنتهي عند “تجميد النشاط”؛ بل تتفاقم مع الاضطرابات النفسية، الشعور بالإرهاق المزمن، وانعدام الأمان. داخل هذا القطاع، لا وجود لسياسات حماية أو تأمين صحي أو ضمان اجتماعي. فهولاء الفاعلون/ات يقدمون التضحيات باسم “القضية”، بينما الواقع مليء بالاستغلال، بما في ذلك التحرش الجنسي، والضغط العاطفي، و الدوائر المغلقة من الفساد والتلاعب.

حينها، لا يكون الابتعاد عن الفضاء العام قرارًا فرديًا، بل هروبًا قسريًا من بيئة طاردة. كثير من النشطاء، خاصة النساء، يلجؤون إلى القطاع الخاص بحثًا عن حدّ أدنى من الاستقرار الإقتصادي: نظام واضح و راتب منتظم.

العزلة هنا ليست مجرد خيار مهني، بل مهدد حقيقي لوجود الحراك نفسه. حين يُقصى الفاعلون الحقيقيون من الساحة، تُترك المساحة فارغة لتيارات فاشية وشمولية تعيد تعريف النضال بلغة الإقصاء والقمع، وتحتكر الفضاء العام لصالحها. العزلة النفسية، فقدان الانتماء، وخسارة الحلم الجماعي بالتغيير، ليست مجرد تبعات، بل أدوات تفريغ ممنهجة لهذا الفضاء من كل من يحلم بشيء مختلف.

استغلال المعاناة وبيع الحزن

في ظل هذه الحرب أصبح من الشائع بين الناشطين/ات إستخدام صور النازحين/ات والدموع كبضائع. تحولت اللحظات الإنسانية الصادقة إلى «Narratives» تكتب وفقًا لمتطلبات التمويل، حيث تصبح المعاناة سلعة، والحزن منتجًا يُسوق، والضمير غائبًا تمامًا.

احتكار النفوذ والشلل المؤسسي

العمل المدني يعاني من مركزية غير صحية، تدفع بجهوده بعيدا عن القواعد المجتمعية التي يُفترض أن تكون قلب العمل المدني وروحه. هذا الانفصال بين مراكز اتخاذ القرار في المنظمات الكبيرة واحتياجات المجتمعات المحلية يؤدي إلى فجوة واسعة في فهم الواقع الفعلي للمشكلات التي تواجه الناس. نتيجة لذلك، تُصمم وتُنفذ المشاريع بناءً على تصورات وأولويات المؤسسة نفسها أو على متطلبات الجهات الممولة، وليس على أساس التحديات والاحتياجات الحقيقية التي يعيشها الناس يوميًا في قراهم واحيائهم. مما يؤدي إلى تنفيذ مشاريع «ورقية» أو شكلية، تركز على مؤشرات النجاح الرقمية أو التقارير الإدارية، لكنها تفشل في إحداث تغيير ملموس ومستدام على الأرض. بالمقابل، يشعر المجتمع المحلي بالإهمال والتهميش، وتضيع الفرصة لبناء علاقات ثقة وشراكة حقيقية بين الفاعلين المدنيين والقواعد الشعبية. بهذا الشكل، تضعف فعالية العمل المدني ويقل تأثيره في تحسين حياة الناس وتحقيق أهدافه التنموية والحقوقية.

هذا بالاضافة الي ستار إحتكار النفوذ الذي يغلف واقع العمل المدني بالسودان، حيث تستحوذ منظمات كبيرة وشبكات نفوذ على المشهد، تَعزِل وتُقصِي من لا «يتبع اللعبة». هذه السيطرة لا تنبع فقط من المنافسة على المناصب والموارد، بل ترتبط ارتباطًا وثيقًا بواقع الطبقية الاجتماعية والجهوية التي تفرض نفسها داخل القطاع. تنتشر في هذه المنظمات عقلية النخبوية التي تُعلي من قيمة الخلفية الاجتماعية أو القبلية أو الجغرافية للفاعل، مما يُكرّس الانقسامات ويعزز منطق الإقصاء. إذ يُستبعد أو يُهمّش من لا ينتمي إلى المراكز الحضرية الكبرى أو إلى مجموعات ذات نفوذ، بينما يُفضل أصحاب العلاقات والولاءات الجهوية على حساب الكفاءة والتمثيل الحقيقي للمجتمعات المتنوعة.

إلى جانب ذلك، يهيمن الاستقطاب الحاد داخل المجتمع المدني، حيث تتنافس تيارات متناقضة بدلاً من التعاون والتكامل. هذا الاستقطاب يقوّض فرص بناء حراك شعبي موحد قادر على مواجهة التحديات الاجتماعية والسياسية، ويفسح المجال أمام استمرار الهيمنة والتحكم من قِبل شبكات النفوذ.

نتيجة لهذه العوامل، يغدو المجتمع المدني مسرحًا لشلل بنيوي قاتل، يقتل روح المبادرة ويقيد فرص العمل الحقيقي. لا يُمكن لهذا القطاع أن يكون قوة فاعلة للتغيير ما لم يُكسر هذا النمط الطبقي والجهوي، ويُفتح المجال أمام تمثيل حقيقي وشامل لكل أطياف المجتمع السوداني.

النخبوية الزائفة والتجاهل العملي

قد يظن البعض أن المثقف الحقيقي هو من يعاني في المقهى الشعبي. لكن الواقع أن الكثير من «النخبويين» يشربون اللاتيه في الكافيهات الفخمة ويكتبون تغريدات عن «التنظيم الشعبي» من مقاعدهم البعيدة عن الواقع. يتحدثون عن التهميش والمرأة، بينما يرفضون حتى التفاعل مع بائعات الشاي، مكرسين بذلك انفصالًا عن قضايا الناس الحقيقية.

اللغة التي يستخدمونها في خطابهم “المثقف” و المعقد لا تتناسب مع تنوع اللهجات واللغات السودانية، بل تُبعد الناس أكثر وتخلق حاجزًا بينهم وبين ما يُطرح. هذا الخطاب لا يعبر عن السودانيين، ولا يُلامس قضاياهم اليومية، بل يرسخ فجوة أكبر بين النخب والقواعد الشعبية.

أما الحركات  النسوية ، فهي تعاني بدورها من “طاعون المتظاهرات”، نسويات يدّعين النشاط والدفاع عن حقوق النساء، لكن في الحقيقة لا يمكننا تتبع تاريخهن النضالي الحافل عند النزول الى الميدان، لا تتعرف عليهن النساء خارج دوائرهن النسوية والسياسية وربما جمعية نساء الحي، ليس لهن ارتباط  بقواعد شعبية حقيقية. هؤلاء النسويات  و بلا وعي او ربما بوعي لاحق أصبحن سببًا إضافيا لرفض المجتمعات السودانية للحركات والمبادرات النسوية بشكل عام، وبرروا ذلك الرفض بربط هذه الحركات بأفعال وسلوكيات منمطة و محددة  لا تمد للحركة ولا لجوهرها وأهدافها بصلة، فقدنا الحراك قبل أن نشكله ونفعله حقا فقدنا الحراك بدلاً من أن  يكون  قوة تغيير إيجابية.

لربما لو نزلن من ابراجهن العاجية إلى واقع النساء السودانيات و قمن بتقديم مفهوم النسوية بشكل مختلف و اكثر بساطة، مفهوم يمكنه أن يشمل ويُراعي خصوصيات المجتمع الدينية والاجتماعية والثقافية، ويُطرح تدريجيًا و بحساسية تجاه التراث والعادات، ربما كان من الممكن أن تحقق الحركة تأثيرًا أوسع وتقبلًا أفضل.

الإعلام الإلكتروني: من أداة ضغط إلى هدف بحد ذاته

الثورة التي كانت صوتًا في الشارع، أصبحت مجرد «بوست» يتنافس فيه الناشطون على اللايكات والتعليقات، مع جدول زمني لنشر العذاب، حيث يفضل البعض «الانتظار للتغطية الإعلامية» على التحرك الفوري لمساعدة المعتقلين أو المتضررين.

الإقرار بالألم

الفهم عاقبته العزلة. ومن يقرأ بين السطور يدرك أن النظام المتداخل في العمل المدني يمنع التغيير الحقيقي، إذ تُمول منظمات تدير ورش العدالة الانتقالية عبر جهات متورطة في القمع ذاته. ما يُطرح هو ضرورة العمل من داخل النظام نفسه لتنظيفه، وهو منطق يشبه محاولة تنظيف العفن بالبقاء في بؤر العفن.

الصراع النسوي داخل الحركة النسائية

النسوية ليست موحدة، لكن داخل الساحة النسائية نجد أحيانًا سلطة تعزل وتقيّم وتمنع دخول من لا يحملون الصوت الأعلى أو الشكل المطلوب. الذكورية ليست حكراً على الرجال فقط، بل يمكن أن تتخذ أشكالاً ناعمة وسلطوية ضمن الحركات نفسها.

هل نحن جيل فاشل؟

جيل تربى على المحتوى الإلكتروني، قرر تحرير بلد معقد، لكنه نسي أن التغيير لا يتحقق من دون وجع حقيقي وعمل متواصل. نحن بدأنا الطريق، لكننا تخلينا عن بعضنا، وكسرنا بعضنا البعض بدلاً من النظام.

لماذا نحتاج إلى مواجهة هذه القضايا؟

لكي نستعيد مصداقية العمل المدني، ونحول القطاع من مسرح للتمثيل إلى قوة حقيقية للتغيير، يجب علينا الاعتراف بوجود «تفاح فاسد» داخل السلة. إنكار هذه الحقيقة لن يؤدي إلا إلى انتشار العفن وتسميم كل الجهود الأخرى الصادقة. الصراحة في مناقشة الإخفاقات، الفساد، النخبوية، والتحيّزات الطبقية، هي الخطوة الأولى نحو بناء مجتمع مدني حقيقي يعبر عن طموحات الشعب السوداني ويخدم قضاياه بصدق.

الخلاصة

العمل المدني في السودان يعاني من أزمة وجودية تتطلب وقفة جادة وصادقة. علينا أن نُدرك أن التغيير الحقيقي يبدأ من الداخل، عبر مواجهة أخطائنا، وتطوير آليات شفافة وعادلة. دون ذلك، سيظل المجتمع المدني مجرد صورة مزيفة، وشعارات جوفاء، ووعود بلا أساس، في وقت يحتاج فيه السودان أكثر من أي وقت مضى إلى صانعي تغيير حقيقيين، لا أناسًا يصارعون من أجل مقاعد، وصور، و«بوستات» على فيسبوك.

انا زولة ساي،
وأقول: فلنبدأ الاعتراف، لننقذ ما يمكن إنقاذه قبل أن يكون الأوان قد فات.

استكشاف المزيد

الحلقة التاسعة والاخيرة: رسائل مفتوحة لنشطاء ما بيعرفوني، لكن بيقرّفوني

الرسالة الأولى: “عزيزي الناشط المؤثر في كل المنصات… والمختفي في كل الميادين” يا أخوي، ما مشكلتي إنك نشط.مشكلتي إنك ممثل.بتنزل صورك وأنت بتوزع مساعدات، وما بتذكر اسم الزولة الشغّالة من الفجر بتطبخ.بتكتب: “دعمت مراكز إيواء”، لكنك ما قضيت يومًا واحدًا في مركز حقيقي. لو ما حاسي بالناس…خلِّي الفيسبوك وادخل إحدي

أكمل/ي القراءة

حين تكون الدورة الشهرية عبئاً إضافياً في الحرب…

“نسوان الخرطوم، بس البرمن قروشهن في الحمام..”كان هذا تعليق إحدى الشابات في احدى القرى عندما رأت فتاة تشتري علبة فوط صحية من بقالة الحي… هذا التعليق ليس جهلا، وإنما نتيجة عقود ممتدة من تجاهل أهمية الصحة الجنسية والإنجابية في السودان، وحصر الخدمات في تنظيم الأسرة وحملات النظافة الشخصية، ليس من

أكمل/ي القراءة