عن كيف تتحوّل المبادرات الصغيرة إلى “بند ملون” في سيرة الآخرين
الشراكات في المجتمع المدني السوداني هي في الواقع الاسم اللطيف لعملية البلع المؤسسي للمبادرات الصغيرة، ففي هذه البيئة تُستخدم مفردات مثل “الشراكة” و”التعاون” كقوالب جاهزة تبدو على السطح ناعمة، لكنها في العمق تعكس تراتبيات قوة غير معلنة. المؤسسات الكبرى – غالبًا بقيادات ذكورية أو بنهج هرمي – تستحوذ على المبادرات النسوية و القاعدية أو المجتمعية الصغيرة، ليس بدافع الدعم بل بهدف إعادة تدوير الجهود تحت مظلة سلطتها. هذا النمط يعكس منطق السوق النيوليبرالي أكثر مما يعكس قيم العدالة الاجتماعية أو النسوية التضامنية أو اهداف هذه المبادرات القاعدية.
في المقابل فإن المبادرات الصغيرة، رغم روحها العالية وارتباطها الحقيقي بالمجتمع، تجد نفسها مضطرة أحيانًا للانخراط في شراكات مع منظمات أكبر. ليس بدافع القناعة، بل تحت ضغط الحاجة. التمويل شحيح، والموارد شبه معدومة، والعمل الطوعي يُنهك الأجساد والعقول. وفي غياب بنية دعم مستقلة أو تحالفات عادلة، تصبح المنظمة الكبيرة — رغم كل تحفظاتنا — بمثابة “طوق نجاة”. تبدو الشراكة حينها كفرصة للاستمرار، أو على الأقل، لعدم التلاشي في الهامش.
في حقيقة الأمر، إن الجزء الأكبر من المشكلة لا يبدأ من “المنظمة الكبيرة”، بل من مكان أبعد: المانحين. هؤلاء يفرضون شروطًا صارمة ومعايير تقنية بيروقراطية، غالبًا لا تتناسب مع واقع العمل المجتمعي الفعلي. يطلبون تقارير بلغة السوق، ومؤشرات كمية، ونماذج تقييم لا تترك مساحة للهامش أو للابتكار المحلي. في النهاية، تصبح المؤسسات الكبرى أشبه بـ”متعهد تنفيذ” يُرضي توقعات المانح، ويبحث بدوره عن شريك ميداني يُنجز العمل بأقل تكلفة. وهكذا، تُدفع المبادرات الصغيرة إلى الدخول في هذه “الشراكات” فقط لتُستخدم كوسيط اجتماعي — يُسهّل الوصول للمجتمع — دون أن تكون شريكًا حقيقيًا في الرؤية أو القرار.
في يوم من الأيام، كان في زولة ساي (غيري)، أسّست مبادرة بسيطة.
كانت فكرة نابعة من الأرض: ورش توعية في القرى، مساحات آمنة للبنات، ونشاطات فنية ضد خطاب الكراهية.
الزولة ما كان عندها تمويل، لكن كان عندها حماس، و بتشتغل بالجهد، و بالمعرفة المحلية،
وفي لحظة — ما كانت متوقعة — جات منظمة كبيرة، بكراسي جلد، ومطبوعات لامعة، وقالت ليها: “عايزين نعمل معاكم شراكة!”
البداية؟ وعود، قالوا ليها: “إنتو أنتم الأقرب للمجتمع، ونحن بنعرف نكتب المقترحات وندير العلاقات.”
الاتفاق؟ هم يجيبوا التمويل، وهي تشتغل في “الميدان”.
وبعد شهور من الانتظار، بدأ المشروع… لكن باسمهم. شعارهم، متحدثهم، تقاريرهم.
أما المبادرة؟ تحوّلت إلى “شريك منفذ”.
واسم الزولة؟ بند في عرض باوربوينت
فجأة، المبادرة الصغيرة دي، بقت تُذكر في السلايدات… مش في أرض الواقع.
صور نشاطاتها القديمة تُستخدم كمادة دعائية. وشغلها الحقيقي يُعاد تدويره تحت اسم “نجاحات الشريك الأكبر”.
كل الأفكار التي بدأت بها، اتمسخت، واتحوّلت لمؤشرات تمويلية.
ولما سألتهم عن دورها، قالوا ليها:”إنتو مهمين جدًا… لكن في المرحلة الثانية.”
و”المرحلة الثانية”؟ ما جات.
هذا ليس تعاونًا… بل استحواذ كما نسميه في القطاع الخاص
يسمونها شراكة، لكنها أشبه بعملية استيلاء.
زي شركة كبيرة اشترت دكان صغير، وحوّلته فرع لها… بدون لافتة.
من الذي يملك الفكرة؟ من الذي تعب؟ ومن الذي حصد الاعتراف؟
مشكلتي؟ ما في التمويل
أنا عارفة إنو المؤسسات الكبيرة بتعرف تتعامل مع المانحين،
وتعرف تكتب proposals بـ”لغة تناسب السوق”.
لكن السؤال: ليه بدل ما “يتعاونوا”، بيغرقوا الفكرة الصغيرة في بحور المصطلحات والتقارير؟
ليه بدل ما يدعموا، بيمسحوا صاحب الفكرة من الصورة… يكتبوا اسمه في الحاشية؟
أنا؟
انا زولة ساي،
شايفة شراكات كتيرة…
لكن نادرًا ما كانت عادلة.
وشفت ناس طلعوا من الشراكة أقل مما كانوا قبلها،
بعد ما حُذفت أصواتهم، وتبنت المؤسسات الكبرى نتائجهم.

