زولة ساي في مستنقع المجتمع المدني السوداني

تنويه ورسالة من الكتابة:
ما ستقرأونه في سلسلة حلقات “زولة ساي” هو تجربتي الشخصية الحقيقية، عشتها كامرأة سودانية أعمل و أفكر وأحلم من موقع “الزولة الساي” — تلك التي لا تحمل امتيازات النسب أو العلاقات أو الشكل “المناسب”، لكنها تحمل عينًا تلاحظ، وقلبًا يصدق، وعقلاً يسأل. لا أدّعي أن حكايتي تمثل الجميع، ولا أعمم النقد، لكنها تجسد واقعًا ملموسًا عايشته مع عدد من الناشطات والناشطين في فضاءات مدنية محددة، ومن خلاله أطرح أسئلة عميقة حول جوهر هذا الفضاء، لا صورته الخارجية.

لم أكتب هذه السلسلة لإلقاء اللوم أو تبادل الاتهامات، بل كتبتها من أجل كل من مرّ أو يمر اليوم بنفس التجربة، ولم يجد الكلمات أو المساحة ليصدح بصوته. كتبتها كي لا يشعر أحد بأنه وحده في هذا الوحل، ولكي نرى أنفسنا في مرآة مشتركة لا تُزيّن الواقع، ولا تخجل من كشف الألم. هذه الحكايات ليست سلاحًا ضد أحد، بل محاولة لفهم ما يحدث داخلنا وحولنا، ومحاولة لكسر الصمت الذي طال أمده.

أردت أن أخلق مسارًا للتفكير لا ينتهي بالمرارة، بل يبدأ بالوعي ويقود إلى البحث عن مخرج. فإن لم نُسمِّ الأشياء بأسمائها، وإن لم نكسر دوائر التكرار، سنبقى ندور داخل المستنقع، نلوم بعضنا البعض، بينما نغرق جميعًا. هذه الكتابة دعوة لأن نرى، ونتفكّر، ثم نُغيّر و نسير — ولو خطوة واحدة نحو الضوء.

الحلقة الأولى : “لأنني محجبة… إذن أنا ما نسوية”  

و لكن من أنا؟

أنا زولة ساي.
حرفيًا… زولة ساي ساي.
لا عندي عم بروف،
لا أمي كاتبة،
لا أخوي بيقعد في “إتني”،
ولا أبوي عنده كرسي في حزب سياسي ولا لافتة مجتمع مدني.
لكن للأسف… بفهم.
بقرأ.
وبكتب.
وبراقب.
من نيتشه لسيجموند فرويد،
من غرامشي لماركس،
من فانون لهيغل،
قريت عن الطبقات، عن الأنظمة، عن القهر البنيوي، عن الجندر، عن الرأسمالية الطفيلية، وحتى عن “العقدة السودانية ما بعد الاستعمار”.

لكنني لم أكن أرتدي المظهر “المتوقع”،
ولم أستخدم اللغة “المعتمدة”،
ولا كنت ممن يُظهرون موافقة دائمة على ما يُقال، فقط ليُحسبوا على “الفريق الصحيح”.

دخلت ساحة العمل المدني في 2015، وأنا طالبة في جامعة الخرطوم.
كنت أحمل قلبًا مليئًا بالأمل، ودماغًا متفجّرًا بحماس “الوعي”، والحجاب فوق رأسي.

آه… الحجاب؟
من هنا بدأت القصة.

أول مرة احتكيت  فيها برتل المثقفاتية المبجل كان في “حلقة نقاش” تنظمها مجموعة شبابية.
الجو كان مشحون بنقاشات عن النظام الأبوي، الجندر، والدولة القمعية.

لكن أول نظرة جاتني، لم تكن تحليلًا سياسيًا…
بل كانت تشريحًا شكليًا.
رمقتني إحداهن بنظرة استعلائية ثم أعلنت قائلة :”هي شنو الجابها دي؟ دايرة تبقى نسوية بالحجاب؟”

“هي شنو الجابها دي؟ دايرة تبقى نسوية بالحجاب؟”

ضحكت في سري.
أليس من المفترض أن النسوية تمنحني حريتي في أن أختار ما ألبس وما أعتقد وما أحب؟
أنا نسوية… نعم،
نسويتي لا تعني كراهية أحد، بل ترفض منظومة القهر و تنحاز للمقهورين.
نسويتي لم  تُبنى على الكراهية، بل على الرفض الواعي للظلم.
نسويتي هادئة، بلا صراخ.
عميقة، بلا شعارات.

حين تحدثتُ لأول مرة في تلك الحلقة،
وحاولت الإشارة إلى كيف أن النظام الأبوي متجذر فينا جميعًا،
قُطعت جملتي بردٍّ مُعلّب: “كلامك فيه تبسيط شديد… واضح لسة ما اشتغلتي على تفكيك ذاتك.”

تفكيك شنو؟
أنا بفكك ذاتي كل يوم.
لكن يبدو أن ذاتي، بهيئتها ولهجتها ولبسها، ليست “مؤهلة” للمشهد.

منذ اللحظة الأولى التي دخلت فيها فضاءات تُعرّف نفسها بأنها “نسوية”، كنت أعلم أنني لا أبدو كما يُفترض بي أن ابدو. لم أكن أتحدث بلغتهم، ولا أتبنى مصطلحاتهم. كان من السهل أن يُقصيني البعض بنظرة أو تعليق سريع، لم يكن الخلاف فكريًا بقدر ما كان رفضًا للاختلاف. و هو في حقيقة الأمر جزء لا يتجزأ من طبيعتنا البشرية ؛ فنحن كبشر نخاف مما لا نفهم، ونقصي من لا يشبهنا. وكما قال أندرو سميث: “الناس يخافون مما لا يفهمونه، ويكرهون ما لا يستطيعون السيطرة عليه.” و انا ما كنتُ مفهومةً لديهم، ولا خاضعةً لنمطهم، ولهذا كان من السهل نبذي.

ولكن تقضي الكوميديا الإلهية التي تحكم عالمنا هذا، أن كثيرًا من النسويات اللواتي رفضنني يومها و لا زلن يرفضنني اليوم، هنّ أنفسهنّ رُفضن سابقًا – و حتى اليوم – من المجتمع لنفس السبب: لأنهن لم يكنّ على “الصورة المقبولة”، مما دفع بعضهن لإعادة إنتاج آليات الإقصاء ذاتها التي تعرضن لها، ولكن داخل إطار جديد يحمل اسم “النسوية”. أما أنا، فلم آتِ لفرض ذاتي، ولا للمنافسة، بل جئت حاملةً حلمًا شبيهًا بحلمهن، وإن اختلفت طريقتي. النسوية الحقيقية، في نظري، يجب ألا تكون دائرة مغلقة تتسع لمن يشبهوننا فقط، بل فضاءً مفتوحًا يحتضن التنوع ويستمد قوته منه. وأنا، رغم اختلافي، لست دخيلة، بل امرأة تحمل رؤية… وزولة ساي.

يمكنني بالتأكيد أن ألخص لكم ما فهمته عن هذا المجتمع على مر العقد المنصرم:
الانتماء في ساحات النضال المدني — ويا له من نضال مصطنع أحيانًا — لا يُقاس بالقيم أو الفهم أو الصدق،
بل يُقاس بالمظهر، بالشلة، وبالـ”credibility” المجتمعي.

وأنا؟
أنا ما عندي صورة في ميدان،
ولا كنت عضوة في حراك “أيديولوجي صريح”،
ولا بحفظ قاموس “تقاطعات جندرية” اكرره كل خمس دقائق.

انا زولة ساي…
شايفة، وفاهمة،
لكن ما “لايقة”.

يتبع،،،

استكشاف المزيد

الحلقة التاسعة والاخيرة: رسائل مفتوحة لنشطاء ما بيعرفوني، لكن بيقرّفوني

الرسالة الأولى: “عزيزي الناشط المؤثر في كل المنصات… والمختفي في كل الميادين” يا أخوي، ما مشكلتي إنك نشط.مشكلتي إنك ممثل.بتنزل صورك وأنت بتوزع مساعدات، وما بتذكر اسم الزولة الشغّالة من الفجر بتطبخ.بتكتب: “دعمت مراكز إيواء”، لكنك ما قضيت يومًا واحدًا في مركز حقيقي. لو ما حاسي بالناس…خلِّي الفيسبوك وادخل إحدي

أكمل/ي القراءة

حين تكون الدورة الشهرية عبئاً إضافياً في الحرب…

“نسوان الخرطوم، بس البرمن قروشهن في الحمام..”كان هذا تعليق إحدى الشابات في احدى القرى عندما رأت فتاة تشتري علبة فوط صحية من بقالة الحي… هذا التعليق ليس جهلا، وإنما نتيجة عقود ممتدة من تجاهل أهمية الصحة الجنسية والإنجابية في السودان، وحصر الخدمات في تنظيم الأسرة وحملات النظافة الشخصية، ليس من

أكمل/ي القراءة