وحدة البحث و التوثيق- حركة نون النسوية
لم أكن أظن أن الإنصات قد يكون بهذا الثقل، أن تُصبح مجرد أذنٍ شاهدة هو جرح في حد ذاته، أن يصبح مجرد الاستماع فعلًا يستنزف الروح. كنت أعلم أن هناك عنفًا ضد المرأة، كنت أقرأ عنه، أراه في الإحصائيات والتقارير، لكنه كان معرفة بعيدة، أرقام باردة، مجرّدة من الوجوه والتفاصيل. ثم جاءت الشهادات، جاءت الأصوات المرتعشة، جاءت الحكايات العارية و التفاصيل التي لا تترك مجالًا للهرب.
حين تتحدث الضحية، لا تروي قصة فحسب، بل تعيشها من جديد، تسحبني معها إلى ليلها الطويل، إلى خوفها المختبئ خلف كل جدار، إلى صوت الطَرقات على الأبواب التي لم تكن تعني يومًا خيرًا، إلى الغصة في حلقها عندما لم يصدقها أحد. إلى النظرات المنكسرة، والجروح التي لا تلتئم حتى حين تختفي الكدمات.
كل كلمة تمزق شيئًا في داخلي، وكل صمت بينها وبين الكلمة التي تليها يحمل وجعًا أثقل من أي حديث.
أحيانًا، من فرط الألم في أصواتهن، أخجل من ألمي، يبدو لي تافهًا، ضئيلًا أمام ما يعشنه. كيف لي أن أشتكي من أوجاعي اليومية وأنا أمام من جُرّدت حتى من حق الألم؟أشعر برغبة يائسة في إنقاذهن، في تغيير مصائرهن، لكني أعرف أنني بعد انتهاء التوثيق، سأعود إلى حياتي، إلى عملي، إلى شهادة جديدة، فيما هن يبقين هناك، محاصرات داخل قصصهن، داخل الألم الذي لا يملك زر إيقاف كما أملك أنا.
هذا العجز يكتم أنفاسي . كأنني أقف على حافة عالمين، أحدهما مظلمٌ بلا مخرج، والآخر يتيح لي الهروب كلما أردت. لكن الهروب؟ لم يعد خيارًا. لأنني أعرف، وأشعر، وأسمع. لأنني حين أغلق الدفتر أو أنهي المكالمة، لا أترك القصص خلفي، بل تبقى عالقة في رأسي، تنبض في ذاكرتي، تسكن يدي التي كتبتها، وتسألني بصمتٍ موجع: ماذا بعد؟
أتذكر أول شهادة وثّقتها، كنت أظن أني قادرة على الاستماع دون أن يعلق الوجع في صدري. لكن بعد المكالمة، بقي صوتها في أذني، تفاصيل قصتها ظلت تدور في رأسي كأنها حدثت لي. كنت أبكي دون أن أفهم إن كنت أبكي عليها أم على عجزي. بعد ذلك، ظننت أني سأعتاد، لكن الحقيقة أن الألم لا يصبح أخف، بل يصبح أكثر وضوحًا، أكثر تجذرًا في الروح.
التوثيق ليس مجرد عمل، بل مسؤولية ثقيلة. أن تسمع القصة وتكتبها يعني أن تحمل جزءًا من ثقلها ، حتى وإن لم تكن قادرًا على تغييره. والعبء الأكبر هو أنك تعرف أن هذا ليس استثناءً، بل هو جزء من واقع متكرر، جزء من نظام كامل يُبقي الضحايا في دائرة الصمت والعجز.
أحيانًا أسأل نفسي: لماذا أستمر؟ لماذا أسمح لهذه القصص أن تثقل قلبي؟ ثم أتذكر أن الاستماع، التوثيق، ولو كان بلا حلول، هو في حد ذاته فعل مقاومة. أن تكون هناك، أن تعطي الضحية مساحة للحكي، أن تُخبرها أن صوتها يُسمع، أن قصتها تُكتب، هو خطوة صغيرة لكنها حقيقية. ربما لا أملك القوة لتغيير مصائرهن، لكنني أملك القدرة على أن أكون شاهدة، وأحيانًا، هذا وحده يكفي لأن يشعرن أنهن لسن وحدهن.
لكن ماذا عني؟ ماذا عن كل قصة تُضاف إلى ذاكرة ممتلئة بالألم؟ لا توجد إجابة سهلة، لا يوجد مخرج واضح. كل ما أملكه هو أن أستمر، أن أكتب، أن أسمع، وأن أبحث عن لحظة أمل وسط هذا الظلام الثقيل.
هذا التناقض ينهشني. أنا الفنانة التي اعتدت رسم الندوب بالمكياج السينمائي، تحريك الجسد ليحكي معاناة النساء بالرقص التعبيري، كتابة السيناريوهات عن العنف بكل دقة، تدريب ممثلات ليصرخن بشكل مقنع، لكن الآن، كيف لي أن أُصدق أن كل ذلك كان مجرد تمثيل؟ ماذا لو كانت إحداهن، من دربتها، تحمل ندوبًا حقيقية تحت طبقات المكياج؟ ماذا لو كانت ترقص على ألمها الحقيقي دون أن أعرف؟ فيلمي الأول، الذي كتبته عن العنف ضد النساء، توقف تصويره يوم اجتاحت المليشيا مدينتي، وكنت أعتقد حينها أن الخسارة في تعطّل المشروع، في ضياع فرصة إيصال الرسالة. لكن في ذات اللحظة، في ذات المدينة، كانت هناك نساء يُغتصبن، يُقتلن، يُجبرن على الهرب حاملات بقايا بيوتهن وذكرياتهن. كنتُ أرى نفسي ضحية لخسارة فنية، فيما كنّ يعشن فصول الجحيم ذاته الذي أردتُ أن أُجسده.
هذا الإدراك يجلدني. الألم الذي كنت أراه في الأفلام لم يكن سوى ظلّ باهت لما يحدث في الواقع. وها أنا الآن، أسمع الحقيقة بأصواتها المرتجفة، أرى العنف كما هو، دون تنقيح، دون مؤثرات بصرية، دون موسيقى تصويرية تزيد المشهد درامية.
لكن، رغم كل هذا، استمر. أستمر لأن الألم الذي أحمله الآن لم يعد مجرد عبء، بل مسؤولية. لأن الاحتمال، حتى وإن كان ضئيلًا، أن تكون شهادتي هذه طريقًا لنجاة امرأة أخرى، يستحق أن أبقى، أن أسمع، أن أتحمل. لأن الأفلام التي سأصنعها لاحقًا، لن تكون مجرد مشاهد متقنة، بل ستكون الحقيقة، مجرّدة كما عرفتها.
إذاً ما يثقلني ليس الألم فقط، بل الاحتمال. احتمال أنني في يومٍ ما قد أكون سببًا في إنقاذ امرأة واحدة. احتمال أن هذه الشهادات لن تكون مجرد حبر على ورق، بل صورة حقيقية تصل إلى العالم كما هي، بلا تنميق، بلا أرقام تُختزل فيها معاناة، بلا بيانات تُستخدم في تقارير باردة. ما يبقيني واقفة وسط هذا الجحيم هو أنني أعرف أن الذاكرة سلاح، وأن توثيق الحقيقة قد يكون في يومٍ ما الفرق بين الصمت والنجاة.
ورغم أنني أخشى اليوم الذي تنفتح فيه السدود داخل رأسي، اليوم الذي يفيض فيه كل الألم المكبوت وأغرق فيه، أعرف أنني لن أهرب. فالهروب لم يعد خيارًا، لأنني عرفت، لأنني شعرت، ولأنني سمعت.
ومهما أثقلني الألم، ومهما شعرت أن العجز يبتلعني، أعلم أن التوقف ليس خيارًا. لأن التوثيق ليس مجرد نقلٍ للحكايات، بل هو مقاومة، هو رفضٌ لأن يكون الصمتُ شاهدًا آخر على الجريمة. لا أملك أن أغير الماضي، ولا أن أمحو الندوب، لكنني أملك أن أجعل الحقيقة مرئية، أن أجعل الألم مسموعًا، أن أترك أثرًا، ولو كان مجرد صوتٍ يصرخ في وجه النسيان.
ربما في يومٍ ما، حين تُسمع هذه الأصوات في أماكنها الصحيحة، وحين لا يكون التوثيق ضرورةً بل مجرد ذكرى من زمنٍ مضى، سأعرف أنني لم أحمل هذا العبء سدى. وحتى يحين ذلك اليوم، سأظل شاهدة، وسأظل أكتب.

