ترددت كثيرًا في كتابة هذه الحكاية، لما تحمله من أوجاع، ولأن كل تفاصيلها كفيلة لخلع ضمير أي مؤسسة تزعم الدفاع عن الحقوق.
لكن… السكوت أخطر.
خلوني أحكي ليكم عن زولة، كانت معانا في فريق شبابي بإحدى المنظمات التي تطوعت بها في زمن الثورة، و لنسمها هنا: البنت الموصومة.
كانت من أهدأ الناس، زولة ساي، زيي و زيكم، بتكتب، بتشتغل، وبتسكت….
كان من عادتها ان تحضر باكرا لكل اجتماع ، و لكل ورشة عمل، و في احد المرات عندما حضرت مبكرا وجدت بالمكتب أحد الزملاء الذي كان قد حضر ذلك اليوم مبكرا مثلها،،
دخل عليها زميلها المكتب بالغلط — أو هكذا ادعى —
ولمسها بطريقة ما كان فيها أي “غلط غير مقصود”.
ما قدرت تصرخ،
لكن قدرت تقول “لا”.
غادرت يومها المكتب مبكرا و لم تحضر الاجتماع، صمتت ليومين ، لاحظنا فيها جميعنا أنها لم تكن كعادتها، لم تقم بواجباتها ولم تؤدي مهامها،
ثم في اليوم الثالث أبلّغت عن الحادثة… بهدوء.
ما قالت: “أنا ضحية”.
قالت: “أنا محتاجة تحقيق”
العدالة كانت مشغولة يومها. لذا قامت إدارة المنظمة بتكوين لجنة على عجل،، من ثلاثة رجال و مسؤولة الموارد البشرية!
جاءت اللجنة.
وقعدت معاها، ومعاه
وطلع البيان: “بعد التحري، لم نجد دليلًا يؤكد الواقعة. المشتبه به عضو نشط، مجتهد، وله سجل نظيف. ونعتقد أن الزميلة قد تكون فهِمَت الموقف بشكل خاطئ.”
خاطئ!! ، تعجز كلماتي عن ان اعلق على هذا الهراء
ولكن القشة التي قصمت ظهر البعير، هي ما تداوله الفريق من احاديث بعد ذلك، بمن فيهم مدراء الفرق و مسؤولون “مرموقين” بالمنظمة: “ربما كان لها دوافع شخصية، أدّت لهذا الاتهام.”
بالعربي؟
“إنتي كذّابة، وهو شغّال أحسن منك.”
وفي نفس الأسبوع، تم سحبها من الفريق بحجة: “أن التوتر الذي سببته بيأثر على العمل الجماعي.”
غادرتنا يومها رفيقتي و لم تعد لسلك العمل العام ابدا بعدها
وغادرت أنا ذاك الفريق في اليوم التالي
البنت الموصومة…
لم تكن الضحية فقط، بل كانت المتَّهمة، ثم المنفية.
وأنا؟
أنا كنت شاهدة.
وصامتة.
وهذا الصمت لا يزال يؤرقني.
ومن يومها، بقيت أعرف إنو المنظمات حتى لو كتبت على لافتاتها “حماية النساء”، ما بتكتبها جوّا ممارساتها.
في المجتمع المدني، حيث تُرفع الشعارات التي تُمجّد “العدالة”، و”السلامة”، و”التمكين”، تُروى قصص من نوع آخر — قصص لا تجد طريقها إلى تقارير الإنجاز ولا إلى الباوربوينت الملوّن.
حين تُقدَّم “سمعة الفريق” على سلامة إحدى عضواته، تُسقط المؤسسة أول أقنعتها… وتُثبت أنها ليست مكانًا آمنًا، ولا صانعًا لأي تغيير حقيقي.
حين يُطلب “دليل ملموس” على جريمة يعرف الجميع أنها تحدث في الصمت، خلف الأبواب المغلقة، في الزوايا الرمادية من الورش والسفريات، فإن المسألة لم تعد تحقيقًا… بل محاولة لدفن الحقيقة تحت ركام الشكوك المؤسسية.
حين تُختصر واقعة تحرش في عبارة “غيرة مهنية”، ويتحول جسد الزولة المتأذية إلى مادة للمزايدة، ويُعاد تعريفها من “متضررة” إلى “مصدر إزعاج”، فذلك يعني أن اللغة نفسها — التي لطالما ادّعت نصرة النساء — قد صارت سلاحًا ضدهن.
والمؤلم أكثر؟
أن هذه القصة ليست استثناءً.
في الواقع، هناك كثيرات لم يتكلمن،
اختنقن، وخرجن في صمت،
لأنهن تعلمن الدرس باكرًا:
في هذه المؤسسات، إن لم تكوني “محسوبة”، فحقوقك لا تُحسب.
كل منظمة تصرخ بـ”لا للعنف”،
لكنها تهمس حين يقع عنف من الداخل.
وكل مبادرة تكتب “حماية النساء”،
لكنها تمحو أسماء النساء حين يصبحن عبئًا على صورتها أمام المانحين.
هذا هو الوجه الآخر للمجتمع المدني.
الوجه المسكوت عنه.
المُجمّل بالشعارات… والمُلطخ بالحقيقة.

